أنتظر قليلا لتسمعها بصوت المؤلف




الفصل الخامس من كتاب الرحالة والغابة

في الطريق إلى الهنود الحمــر



ثلاثمائة كيلومتر من مدينة (سـيودات بوليفار) قطعتها السـيارة الـ (جيب)
في حوالي أربع سـاعات حتى وصلنا إلى

 قرية صغيرة على ضفاف النهر ،حيثُ سـنواصل الرحلة من هناك عن طريق القارب .. نهر (ريو كاورا) هو (نهر أسـود) ..

وهذا اصطلاح معروف لوصـف بعض الأنهـار .. وكلمة أسـود هنا تعني أن لون النهر يتراوح بين الرمادي ولون القهوة واللون

الأسـمر .. وتأتي هذه الألوان المختلفة للمياه نتيجة مكونات التربة المختلفة والتي تذوب في المياه .. بوجه عام فإن

الأنهار التي تُوصف بأنها (أنهار سـوداء) .. يكون لهذا الاسم دلالة خاصة تتعلق بالبعوض .. ففي الغالب تكون الأنهار

السـوداء خالية من البعوض ،وهى ظاهرة غريبة تسـتحق الدراسـة !!.. فكيف يكون من المعقـول أن مثل هذا النهر

الذي يقع في وسـط الغابات الاستوائية شـبه خالٍ من البعـوض .. إنها من الأمور الـمُحيرة للفكر وقد أختلف

المفسـرون في تفسـير هذه الظاهرة الطبيعية ولكن حتى الآن لا يوجد تفسير مُقنع وواضح لهذه الظاهرة الغريبة !..

والباب هنا مفتوح على مصراعيه للباحثين عن طـرق طبيعية للتخلص من البعوض وبدون اسـتعمال المواد الكيماوية ..

فهناك في تلك الأنهار السـوداء شيء ما لا يحبه البعوض .. ولكننا لا نعرف ما هو هذا الشيء .. وإذا كانت هناك (أنهار

سـوداء) بألوانها الداكنة ،فمن الطبيعي أن توجد أنهارُ تُوصف بـ (الأنهار البيضاء) ذات الألوان الفاتحة ومن المناظر

الجميلة في الطبيعة عندما يلتقي نهرُ أسـود مع نهر أبيض ،حيثُ يتصارع اللون الداكن مع اللون الفاتح ويحاول كل

منهما أن يتغلب ويطغى على اللون الآخر وكأنه صراعُ بين الخير والشـر .. ومن الغريب أيضاً أن اللونين الفاتح والداكن لا

يختلطان بسرعة مع بعضهما بل يظلا فترة من الوقت غير مختلطين .. وربما يعود ذلك إلى اختلاف في كثافتهما نظراً

لاختلاف المواد المُلونة المُذابة في كل منهما .. وقد رأيتُ أيضاً مثل هذه الظاهـرة في أوربا حيثُ يسـمون نهر الدانوب

DONAU الذي يخترق ألمانيا والنمسـا والمجر ورومانيا ويصب في البحر الأسـود (الدانوب الأزرق) ،وكذلك نهر الـ

(إن)INN  الذي يخترق سويسرا والنمسا وألمانيا يسمونه نهر الـ (إن الأخضر) لأن لونه يميل إلى اللون الأخضر ،ونهر الـ

(إلتس) IIlz وهو نهر صغير يمر بألمانيا يسـمونه الـ (إلتس الأسـود) .. وهذه الأنهار الثلاثة تتقابل في مدينة (باساو)

Passau في جنوب ألمانيا ،ويمكنك في توقيت ذوبان الجليد وارتفاع مسـتوى المياه أن ترى ثلاثة ألوان من المياه

تمتزج ببعضها البعض وإن كانت شـدة تركيز الألوان في الأنهار الأوربية اقل منها في الأنهار الاستوائية .

نهر (ريو كاورا) من الأنهار الوحشـية السـريعة الجريان وتتناثر به كتل من صـخور الجرانيت وبعضها ضخم جداً حتى أنه

يُشـكل جزيرة يُمكن الاستجمام عليها .. وهو من الأنهار القليلة التي مازالتْ على طبيعتها الوحشية الجميلة .. وفي

منطقـة (سـالتو بـارا) Salto Para يهبـط النهـر من المرتفـعات إلى الأعمـاق ليُشكل شـلالات مياه رائعة الجـمال

وفـريـدة من نوعها وخصـوصـاً أن هـذه الشــلالات تحتـضنها الغـابـات الخـضـراء والأشـجـار الكثيفة من كل الجهات ويشـق

النهـر طـريقــه المتعرج بين تلك الأدغـال الكثيفة .. والنهر غـير مُمهد للملاحة النهرية اللهم إلا للقـوارب الصغيرة التي

يقـودها بعض أهالي المنطقة الذين يعرفـون أماكن تواجد الصـخور في هذا النهر لتفاديها .. وقد اختـار (فـرنـانـدو) رجلاً

من أهـالي المنطقة يمتلك قارباً خشـبياً صغيراً وقال لي: إن صاحب القارب يعرف كيف يتفادى الاصطدام بالصخور ..

وكان علينا أن نُبحر لمدة ثلاثة أيام عكس اتجاه تيار المياه حتى نصل إلى الشـلالات وهى مُهمة صعبة وخطيرة في

هذا النهر السـريع الجريان والمليء بالصخور ،هذا بالإضافة إلى خطـورة سـمك البيرانيس المتوحش والتماسـيح

المفترسة التي تعيش في هذا النهر .. وأصابني الهلع عندما رأيتُ الحالة التي عليها ذلك القارب الخشبي القديم

،فقد كان به ثـقـوباً عديدة وقد قام صاحبه بسـدها بقطع من القمـاش ،والقارب يكاد أن يتفكـك من بعضه البعض .. وكان

خيالي يذهب إلى بعيد وأتخيل أشـياء مُرعبة وخصوصاً عندما أتصور أن هذا القارب لن يصمد طويلاً أمام سـرعة جريان

هذا النهر ،وناهيك عن إحسـاس الرعب الشـديد من الهزات العنيفة التي تحدث عند ارتطام القارب بإحدى الصخور ..

وكنتُ أعرف تماماً أنه إذا تحطم القارب فسـتهجم علينا أسـماك البيرانيس وتجعل من لحمنا وجبة شـهية .. وكان

(فـرنـانـدو) يؤكد لي أن سـمك البيرانيس لا يهاجم الإنسـان إلا إذا كان به جرح يسـيل منه الدم .. فأوضحتُ له أنه إذا

تحطم القارب ووقعـنا في هذا النهر وسـط الصخور المدببة والحادة الأطراف فالاحتمال كبير أن يصاب الـمرء بجرح أو قطـع

.. وحاول (فـرنـانـدو) أن يطمئنني أن القارب لن يتحطم ولن يغرق .. فقلتُ له: فلنقل إن شـاء الله ،فأنا لا أثق في قدرة

هذا القارب ولكنني أثق في قدرة الله ، فـعندما شـاء الله أن تغرق سـفينة (التـيتـانـك) فقـد غـرقتْ برغـم تجـهيزاتها

الحـديثة وربما يكـون حظ هذا القـارب المسـكين أفضـل من ذلك .

حالة القارب المتهالك في القدم لا تدعو للاطمئنان .. ولكن ما كان يطمئنني هو اعتقادي الراسخ بأنني لن أموت قبل

ميـعادي الذي كتبه الله لي ،وأن الروح لن تَخُرج قبل ميعـادها ،وأن ما أراد الله  كان وما لم يُرد لم يكُن .. وحكيتُ لـ

(فـرنـانـدو) عن بعض مغامراتي في الغابات المخـتلفة في العـالم وكـيف أنني تعرضـتُ لخطر الموت عدة مرات ولكن

مشـيئة الله كانت أقـوى من كل ذلك .

في مؤخـرة القـارب الخشـبي القـديم تم تثبيت مـوتور صغـير وكان هذا الموتـور له  صوت مثل صوت أنين المرأة الثكلى

 وخصوصاً أننا نسـير عكس اتجاه تيار المياه الجارفة .. وبدأ القارب يتحرك بطيئاً وكأنه في صراع مع تيارات المياه ،وكان

سـائق القارب بارعاً في تفادي الصخور .. ومرتْ السـاعات والسـاعات وليس حولنا إلا المياه والسـماء والغابات الكثيفة

على الجانبين .. وشـعرتُ أني أسـير بالقارب ليس ضد تيارات المياه ولكن ضد تيارات الزمن وكأنني أعود إلى مرحلة ما

قـبل التـاريخ أو إلى ما قـبل وجود الإنسـان .. فالهـدوء يعم المكان والجمـال الطبيعي يكسـو كل الأجواء وكل شيء

حولي يبدو على طـبيعته الأولى منذ قديم الأزل .. وكأنني على كـوكـب آخـر غـير الأرض التي أعـرفهـا .

مضى اليـوم الأول .. وودعـتْ الشـمس الأفـق ونشـر الظـلام شـباكه المُوحشـة على الغـابات وبدأتْ حـيوانات اللـيل

في العـويل .. قـررنا أن ننـصـب شـباكنا التي ننام عليها بين شـجرتين قريباً من النهر ،وألقيتُ جسـدي الـمُتعب على

شـبكة النوم وأغـمضتُ عيني فجـاءتْ نسـمة هـواء عـليلة لتجـفـف عـرقي وتسـلمني إلى نـوم عـميق .

في المناطق القريبة من خط الاسـتواء تأتي الشـمس مبكرة وتصعـد إلى السـماء بسـرعة في خلال وقت قصير جداً ،

وكذلك عند الغروب  يكون الجو مضـيئاً وفي فترة وجـيزة يحـلُ الظـلام الحالك ،وهذه ظـاهرة طـبيعية معـروفة في

المناطـق الاستوائية .. وكالعادة زارتني الشـمس مبكرة في هذا الصباح أيضاً وأصرتْ أن توقـظني من نومي العميق ..

وأنا أدُير لها ظهري وأخبئ عيني بيدي ولكنها تُصر على ذلك .. فتزيد من حرارتها شـيئاً فشـيئا والحرارة تخترق ثيابي

والدفء يتحول إلى حُبيبات عرق تبلل ظهري .. فلا يبقى أمامي سـوى الاسـتسـلام أمام حرارة الشـمس وغادرتُ

شـبكة النوم والأحلام مسـتيقظاً .. ففتحتُ عيني على العصافير التي اسـتيقظتْ من قبلي والنهر الذي مازال يجري

ولم ينم طوال الليـل وعلى الأشـجار التي بدأتْ تتمايل يميناً ويسـارا وكأنها تؤدي تمرينات الصباح الرياضية .. فحاولتُ

أنا أيضاً أن أكـون رياضـياً وقفـزتُ قفـزة بهلوانية من شـبكة النوم .. فمازال الطـريق أمـامي طـويلا في نهـر ( ريـو كـاورا )

 .. نحـن نسـير ضـد تيـار الماء الشـديد والقارب القديم يصارع بكل جهده ضد تيارات المياه ،ويميل أحياناً بشـدة يميناً

ويسـارا ليتجنب التصادم بالصخور المتناثرة .. وفي النهر تسـبح بعض الحيوانات التي تُظهر رأسـها من الماء بين حين

وآخر ورأسـها تشـبه رأس الكلب ولها شـوارب طويلة أما التماسـيح فلا يظهر منها فـوق الماء إلا عينيها اللتين لا

ترجفان أو نراها تتمـدد على الشـواطئ وتنتظر بدون أي حركة ... وبرغم ســطوع الشـمس بدأتْ بعض السـحب

السـوداء تتجمع في الأفق وفجأة وبدون سـابق إنذار انفتحتْ أبواب السـماء وهطل المطر غزيراً .. والمطر الغزير في

 المناطق الاستوائية يعني غزارة حقيقية حتى أنه يُخيل إليك أن السـماء تصب الماء صباً .. وبدأ (فـرنـاندو) يحاول بكل

جهده إخراج ماء المطر من القارب بعلبة بلاسـتيكية صغيرة ولكن بدون جدوى .. ففي الوقت الذي يكون قد أفرغ من

القارب علبتين من الماء تكون السـماء قد أمطرتْ ضعف هذه الكمية .. وبدأ الماء يرتفع في داخل القـارب المتهـالك ..

والسـائق يمسـك بدفـة القارب ويحاول تفادي الصخور و(فرناندو) يحاول جاهداً وبسـرعة إخراج الماء بالعلبة البلاسـتيكية

وأنا مشـغول في محاولة سـد الثقـوب التي انفتحتْ في جدار المركب وذلك عن طريق قطع قطعة قماش من فانلتي

(التي شيرت) وحشـرها في الثقب المفـتوح .. وما أن انتهي من سـد ثقـب حتى ينفتح ثقـب آخر .. وبدأ الخوف يظهر

على الوجوه وعلامات الاضطراب والقلق تظهر على (فـرنـاندو) والعـرق يتصـبب من جـبينه وأخذ يخـاطب سـائق القارب

بصـوت عـالٍ وحاد .. وفطن سـائق القارب الماهر إلى خـطورة الموقف وأن عليه أن يتخذ قـراراً بسـرعة لإنقاذ القارب

ومن عليه فأدار دفـة القارب بسـرعة في اتجاه الشـاطئ إلى أقـرب نقـطـة ممـكـنة .

وصـلنا الشـاطئ بسـلام وخـرجنا من القـارب الصـغير .. وقـُمنا بسـحب القارب إلى الشـاطئ حتى يكـون في وضع

مائل ليتـدفـق منه مـاء المطر إلى الخارج .. وخـلعتُ ملابسي المبـللة ولم يبق على جسـدي سـوى سـروال قصير

يسـتر عورتي .. وحاولتُ أن أسـتمتع بسقـوط قطـرات المطر الكـبيرة على كتفي وصدري العاري وكان هذا النوع من

التدليك و (الـمساج) أفضل بكثير من التدليك في الحمام التركي .. أغمضتُ عيني ووقفتُ تحت المطر اسـتمتع بهذا

التـدليك وبهذا الحمام السـماوي .. فقد كان علينا أن ننتظر حتى يكُف المطر ثم نواصل الرحـلة.

المطر مازال غزيراً ولكن الجو دافئ .. وكان هناك بجوار الشـاطئ جزء مرتفع من الأرض على هيئة هـضبة ،فتسـلقتُ

إليها من بين الأشجار برغم تساقط المطر الشـديد وســرتُ حافي القـدمين حتى لا تنزلق قـدمي من كـثرة الأوحال

وسـمعتُ صـوت (فـرنـاندو) ينادى: إلى أين أنت ذاهب ؟ .. عُد بسـرعة فالمنطقة خطرة وبها ثعابين وحـيوانات مفـترسة

.. فأجـبته أن لا يقلق وأني لن أذهـب بعـيداً ،وسـأقف هنا قليلاً لألـقي نظرة على الغابات خلف هذه الهـضبة إلى أن

يتـوقف المطـر ... وقـفتُ على الهضبة وقـدماي ممـلوءتان بالوحـل والمطـر يصـبُ سـيوله على كتفي العاري والماء يقطر

من شـعري المبلل .. ونظرتُ حولي متأملاً في هذا المكان المعزول عن العالم والذي لا يصل إليه شـارع أو طـريق بري

ولا سـيارة ولا قطار ولا حتى بغل أو حُصان أو حمار .. ونظـرتُ إلى تلك الغـابات الكـثيفة والمطر يغسـل أوراق الأشـجار

وإلى النباتات المتسـلقة التي تسـد الفـتحات التي بين الأشـجار .. ورأيتُ هناك بين هذه الأشـجار على مسـافة

ليسـت بعيدة بعـض الأكـواخ الصـغيرة التي صُنعت أسـقفها من سـعف النخيل .

بدأ عقلي يُحـلق ويسـرح في الخيال ،وأسـأل نفسي ألف سـؤال وسـؤال .. هل هذه الأكـواخ بهـا أناس أم هي خالية

من السـكان .. وإن كان بها بشـر فماذا يأكـلون ؟.. وكـيف ينامون ؟.. وماذا يعملون ؟ .. وكيف يتزوجون ؟.. وكم عددهم؟

.. وهل هم أناس طيبـون أم أشـرار ؟.. وما شكل نسائهم ؟ .. هل هن جـميلات ؟.. هل عـندهم دقـيق وقـمح ؟.. أم

يعيشـون على الفاكـهة ؟.. هل يعيشـون أعماراً طويلة أم يمـوتون صغاراً ؟.. هل صحتهم جيدة أم تنتشـر بينهم

الأمراض ؟.. ما دينهم ؟.. ما هي عاداتهم واعتقاداتهم .. هل عندهم اتصال بالعالم الخارجي ؟.. وكم حجـم هذا

الاتصـال .. هل يعرفـون الطـائرة والقطـار ؟.. هل سبق وعاش معهم أحد غريب ؟.. هل هم سـعداء أم بؤسـاء ،وأي نوع

من المشـاكل تنغص عليهم حياتهم ؟.. وهل ولماذا وكيف ؟.. وسـؤال يتبعه سـؤال وكل أسـئلتي تبقى بلا رد وبلا إجابة

.. وبينما خـيالي يروح ويجيء وفكري مشـغول بسـكان هذه الأكواخ سـمعتُ صوت (فـرنـانـدو) يناديني لنواصـل الرحـلة

فقد توقف المطر .. فأسـرعتُ الخُطى في اتجـاه النهر .. ولكن قلبي وخـيالي بقى عالقاً بين أشـجار هـذه الأدغـال مع

سـكان هذه الأكـواخ .

مازال الطـريق أمامنا طـويلاً وعلينا أن نصـارع هذا النهـر ثلاث ساعات أخرى حتى نصل إلى مكان شـبه آمن لقـضاء

ليلتنا ، ومن حُسن الحظ أن المطر لم يعـاود فـعلته مـرة أخـرى .. اختار (فـرنـانـدو) منطقـة رملية على شـاطئ النهـر

لننصب فيها شـباك النوم لقـضاء ليلتنا .. ومن المهم جداً في اختيار مكان المبيت أن يكون بعـيداً عن النباتات التي

تختبئ فيها الحشـرات والثعـابين .. وقمنا بجمع الأخشـاب وإشـعال النار حتى تخاف منها أنواع النمـور التي تسـكن

في هذه المنطقـة مثل الـ (جاكور) و الـ (بوما) وهي من النمـور المعـروفة بشـراستها .. وجلسـنا بجـوار النار نتجاذب

أطـراف الحديث .. وسـألني (فرنـانـدو) قائلاً: هناك سـؤال يحيرني ولا أعرف له جواب وهو لماذا تسـافر وحدك إلى

الغابات والمنـاطق النـائية ؟.. ولماذا لا تسـافر مع مجموعة من الأصـدقاء حتى إذا حدث لك مكروه يمكنهم مساعدتك

أو إنقاذك ؟.. فقلتُ له: إن مثل هذه الأماكن تكون بها نسـبة الخـطورة مرتفـعة ولذلك فأنا أحتاج إلى أن يكون ذهني

 صافياً وعقلي نقياً حتى أستطيع اتخاذ القرار المناسـب في اللحظة المناسـبة وهذا لا يتأتى إلا عندما أكون وحدي ..

وإن كنتُ مع مجـموعة فقد يؤثرون عليَّ في أن أتخذ قراراً غير الذي أريده .. وهذه ظـاهرة معـروفة وهي أن الجماعة

يمكن لها التأثير على الفرد في أن يصنع شـيئاً لا يريده .. وهذه النظرية قد اسـتخدمها قادة الجيوش المختلفة ليجعلوا

الأفراد يفـعـلون ما يريدونه منهم .. فمثلا إذا كنت في الجيش وطَلب منك أحد القادة أن تطلق الرصاص على شـخص ما

فأنك سـترفض ذلك .. ولكن إذا وضـعوك في وسـط مجموعة من العسـكر وطلب أحدهم منكم أن تطلقـوا الرصاص على

نفس الشـخص ورأيت زملاءك يفـعلون ذلك .. فمن الممكن أيضاً أن تفـعل أنت مثلهم برغم أنك لا تريد أن تفـعـل ذلك ..

إنها ظـاهرة خطيرة .. ومنْ يعش مع الأغبياء يصر غبياً ومن يعش مع الأشـرار يتطبع بطباعهم ..إلا من رحم ربي .. وحقاً

(المرء على دين خليله) أو كما يقـول المثل (من عاشـر القـوم ثلاثين يوماً صـار منهم) .. فكم من أناس أذكياء قد

ارتكبوا حماقات عديدة تحت تأثير الآخرين .. وقد كدتُ أن أموت غرقاً بسـبب ذلك في قرية صغيرة تقـع شمال جزيرة

(سـومطره) في دولة إندونيسـيا .. فسـألني (فـرنـانـدو): وكـيف حـدث لك ذلك ؟.. هل لك أن تحـكي هـذه الواقـعة ؟

بينما أنا أتأمل السـنة اللهب التي تتطـاير من النـار التي أمـامنا أخـذت أسـترجع ذكرياتي في جزيرة (سـومطره) .. فقد

مضى على ذلك سـنوات عديدة ولكن مثل هذه الذكريات المؤلمة لا ينسـاها الإنسان رغم مرور السـنين فقلتُ لـ

(فرنادو): هناك قـرية صـغيرة في شـمال جزيرة (سـومطره) اسـمها (بوكيت لاونج) معروفـة بجمـالها ويذهب إليها

الإندونيسـيون من سـكان مدينة (ميدان) للاسـتجمام .. وعلى مقـربة من هذه القـرية يوجـد مركـز دولي للمحافظـة

على نوع من القـرود يُسـمى الـ (اورانج أوتان)  Orang Utanفي الناحية الشـمالية من القرية .. وفي هذه المنطـقة

الشـمالية يأتي بعض الأجانب لرؤية هذه الفصيلة من القـرود التي تشـبه الإنسـان في الطـول والـوزن .. فطـول هذا

القـرد يصل إلى  190 سـم أي تقريباً طـول الإنسـان ووزنه يصـل ما بين 70 و 100 كيلوجرام أي ما يقـارب وزن الإنسان

.. حتى مدة الحمل عند  أنثى هـذا القـرد هي تسعة أشهر مثل مـدة حـمل الإنسان .. ولذا  فإن اسـم هـذا القـرد

باللغـة الماليزيـة يعني (إنسـان الغـابة) .

هو حيوان يجيد التعلق على الأشـجار وله شـعر جميل يصل طـوله إلى نصف المتر ويميل لونه إلى الحمرة .. وهو من

الأنواع التي كانت ومازالتْ مهـددة بالانقراض .. فلا يوجد على سـطح الأرض أكثر من أربعة آلاف قـرد من هذه الـفصيلة

.. وكل من يأتي إلى القرية يذهب إلى هذه المنطقة الشـمالية لمشـاهدة القـرود ولكنني  قررتُ أن أذهب إلى الاتجاه

الآخر لاسـتكشـاف الغابات التي تقع في جنوب غرب القرية والتي لا يذهب إليها حد نظراً لوعورتها وخوفاً من الـدود

الماص للدماء (العـلق) الذي ينتشـر في هذه المنطـقة.

حملتُ حقيبتي الصغيرة على ظهري وعصاي في يدي وتوكلتُ على الله .. وعند مغادرتي للقرية ماراً ببعض بيوت

الفلاحين المتنـاثرة في أطـراف القرية كان الفلاحون يعتـقدون أني ضللتُ الطريق ويرشدونني إلى الناحية الشمالية

ولكنني كنتُ أعرف أنني أريد الناحية الأخرى التي لا يذهب إليها أحد .. وكان الفلاحون يتعجبون لهذا الغريب الذي

يمشي وحده وكأنه يعرف طـريقه جـيداً إلى أعـماق الغـابـات .

بدأتْ الغابات الحارة المناخ تسـتقبلني اسـتقبالاً حافلاً أفضل من اسـتقبال الملوك والرؤسـاء .. فبينما يُستقبل

الرؤسـاء بالموسـيقى النحاسـية والطـبل والـزمر والسـير على السـجادة الحمراء فقد اسـتقبلتني الغـابة بموسـيقى

نغمات الطيور وبعزف خرير الماء وفرشـتْ لي سـجادة طبيعية خضراء من الحشـائش والنباتات .. وقد صور لي خيالي

وكأن الغابة تقـول لي: أهلاً بك في غابات سـومطره .. أهلاً بك في موطنك الحقيقي .. أهلاً بابن الغابة العائد إلى أمه

.. لا تخف يا بني أنني أم حـنون .. سأعطيك من الفاكـهة أحسـنها مـذاقاً .. فالفاكهة عندي لا تعرف الكيماويات ولا

المبيدات الحشـرية .. وسأعطيك من الماء أنقاه .. فالماء عندي لم يعرف الكلور السام ولم يلوثه أحد .. ارقـصي يا

أشـجار أجمل الرقصات وغردي يا طيور أفضل النغمات ترحـيباً بابن نهـر الـنيل الخـالد .. أخذتُ أسـتمتع بصوت الطيور

ورقص الأشـجار .. وأخذتُ أمشي وأتجول مبهوراً بما حولي من طبيعة غناء .. وبعد أن صار الجـو حاراً والعرق لزجاً

وجـدتُ أمامي بحـيرة مياه كبيرة تحيط بها الأشـجار والنباتات من كل جانب .. وأشـعة الشـمس تنعكس على سـطح

الماء الـرقراق .. فلم اسـتطع مقـاومة هـذا الأغـراء فخلعتُ ملابسي قطعة بعد قطعة ،فليس هنا أي داعي للحياء لأنه لا

يوجد أحد غيري سـوى الطيور والحيوانات .. وكان الماءُ جميلاً رطباً ينعش النفس يطرب الروح ويزيل العرق اللزج عن

جلدي .. وبينما أنا أستمتع بالاسـتحمام في ماء البحيرة شـعرتُ للحظة أنني غني جداً .. شـعرتُ أن هذه البحيرة

الجميلة والغابات التي حولها مِلكاً لي ويمكنني الاسـتمتاع والتجول بها حسـبما أريد .. وتعجبتُ كيف أترك هذه البحيرة

الضخمة وأقنع بحمام سـباحة صـغير ؟.. وكيف أترك هذه الأشـجار العملاقة وأكتفي بشـجرتين من التفاح ؟.. كيف أترك

هذا الهدوء وأرضى بضجـيج الشـوارع ؟.. كيف أترك هذه الراحـة النفسـية ونقـاء الذهـن وصـفاء الـروح ..  إنني أحب هذه

الغابات رغم خـطورتها ورغم مصـاعبها .. وأنا اعـتقد أن من أعلى درجات الحب هو الحب (بالرغم من) .. وإن هذه

الدرجة أعلى من درجة الحب (لأن) .. لأنك إن كنت تحب إنسان لأنه جميل أو مؤدب أو ما شـابه ذلك فهذا وضـع

طـبيعي ومألـوف ولكن أن تحـب إنسـان رغـم عـيوبه التي تعرفها .. فهذا يعني أنك تقـبله كإنسـان مسـتقل كما هو

وليس كما تريد منه أن يكون .. وأنا أحب الغابات وأقبلها كما هي وكما خلقها الله .. قضـيتُ في هذه الغابات عدة

أسابيع أتجول فيها مثل النحـلة النشيطة من شجرة إلى شـجرة ومن زهـرة إلى زهـرة .. ومما كـان يزعجني أن هذه

الغـابات كان بها عدد كبير من الديدان البنية اللون والتي تعـيش على مص الدماء (العلق) .. وهي ديدان يمكن أن يصل

طولها إلى حوالي  15 سـنتيمتر .. والنوع الذي كان منتشراً في هذه الغابات هو من الحجـم الصغير الذي يصل طوله

إلى حوالي سـنتيمترين .. والغريب في هذا الحيوان أنه عندما يعض ويلتصق بالجسـم ليقـوم بمص الدماء فأنك لا

تشـعر بالألم .. تراه ولا تشـعر به .. وبعد أن يشـبع من مص الدماء يترك الجـلد ويترك وراءه جرحاً تنزف منه الدماء لفترة

من الوقت .. وبينما كنتُ أتجـول في الغـابة وجدتُ أن الدم ينزف من أماكن متفرقة في سـاقي وعندما رأيتُ أن هذا الدم

له سـيولة غير المعتادة .. عرفتُ أنه (العلق) الذي سـرعان ما رأيتُ بعضاً منه قد تشـبث بجلدي ويمص من دمي ..

وفي هذه الحالة ليس أمامك سـوى حـلين لهذه المشـكلة .. الأولى أن تتركه يمص الدم حتى يشـبع وبعدها سـيترك

الجلد من نفسـه .. وهذه عملية نفسـية صعبة جداً وذلك لأنك ترى حيوان يمص دمـك وأنت تجلس وتنظر إليه حتى

ينتهي من ذلك .. مجرد الإحسـاس بأن هناك شيء ما يمص دمك هو إحسـاس مزعج .. والثانية أن تجعل الدودة تضطر

لترك الجلد وذلك عن طريق النار بأن تقرب منها لهب سـيجارة أو عود ثقاب مشـتعل .. فـعندما تشـعر الدودة بالنار تترك

الجلد .. والخطأ الأكبر الذي لا يجب أن تقع فيه هو أن تحاول نزع الدودة باليد فقد يتسـبب ذلك في أن تبقي أجزاء من

رأس الدودة عالقة بالجرح مما يتسـبب في التهابه وقد يكون لذلك عواقب وخيمة .. فالجرح الملتهب في الغابات

الاستوائية خطر جسـيم ،حيثُ أن احتمال تلوث الجرح يكون كبيراً .. بالإضافة إلى أن نسبة الرطـوبة العـالية في الهواء

تجعل الجرح لا يلتئم بسـرعة .. ومثل هذه الظروف المناخية هي المناخ المناسب لتكاثر البكـتريا والجـراثيم .. أنا أعرف

ديدان (العـلق) من رحلاتي السـابقة فقد رأيتُ منها أحجام كبيرة في غابات فيتنام .. كما أن هذه الديدان في فمها

مادة الـ (هيرودين) Hirudin التي تسـاعد على سـيلان الدم والتي تضخها في الجرح الناتج عن عضتها مما يجعل الدم

سهل الامتصاص .. ولهذا السـبب فإن الجرح يظل ينزف منه الدم لفترة زمـنية حتى بعد أن تترك الـدودة الجرح .. والذين

يذهـبون إلى مثل هذه المنـاطق تجد في جـعبتهم سـيجارة أو سـيجارتين .. ليس بهدف التدخين ولكن محتوى

السـجائر من نبات (الـتبغ) له في هذه الحـالة  فـائدة مجربة وأكـيدة .. وهي أن تضغط (الـتبغ) بشـدة في الجرح الناتج

من عضة دودة (العـلق) وتتركه عليها بعض الوقت .. فيتوقف نزيف الجرح وذلك لأن (الـتبغ) يساعد على تضييق

الشعيرات الدموية مما يجعلها تتوقف عن النزيف .. أي أنه يؤثر تماماً عكس المادة  المسـيلة للدم والموجودة في فـم

دودة (الـعلق ).. بالإضافة إلى أن (التبغ) يحافظ على جفاف الجـرح وتعقيمه في هذه الحالة .. وهناك العديد من هذه

الخبرات المفيدة التي يتبادلها الرحالة المسافرون فيما بينهم .. في كل يوم في هذه الغابات كنتُ أرى الدماء تسـيل

مني بسـبب هذه الديدان .. وبعد عدة أسـابيع شـعرتُ وكأن دمائي قد اسـتنزفت وإن قـواي قد ضـعفت .. فقـررتُ أن

أكتفي بهذا الحد وأخـرج من الغابة عائداً إلى قرية (بوكيت لاونج) للاستجمام و الراحـة حتى أسترد عـافيتي استأجرتُ

كوخاً خشبياً صغيراً في وسط هذه القرية ويقع مباشرة على ضفاف النهر الذي يأتي إليه الإندونيسـيون للاصطياف

والاسـتحمام .. وكان في مواجهة الكوخ مباشـرة مطعم صغير يطل أيضاً على مجرى النهر الذي يمر في وسـط القرية ..

وقد قررتُ البقاء عدة أيام في القرية للاسـتمتاع بالطعام الإندونيسي وخصوصاً أكلاتهم المفضلة ومنها الأكـلة الوطنية

(ناسـي كـامبور) التي هي عبارة عن أرز وخضروات وفـول السوداني المقلي ولحم البقر أو

 الدجاج وأحيانا السـمك والبيض .. أو الأكلة المعروفة في جنوب شـرق آسـيا وهي عبارة عن أرز محمر في الزيت ومعه

بيض أو خضروات وتسـمى (ناسي جورنـج) وكـلمة (ناسي) تعني أرز .. والأرز هنـا هو عصـب الحيـاة الرئيسي .. فلا

يمكن تخيل الحـياة هنـا بـدون أرز .

كنتُ كل يوم أجلس بعد الظهر في هذا المطعم وأشـرب الشـاي الأخضر الذي يقدمونه في أغلب المطاعم بالمجان

وأسـتمتع بأكل قطع اللحم الصغيرة التي يغمسـونها في السـكر والبهارات ثم يتم شـويها على الفحم ثم يقدمونها لك

مع صلصة الفـول السوداني .. وأتابع بنظري مجرى النهر الذي كان يجري بسـرعة عالية وتتناثر في مجراه قطع كبيرة

من الحجارة التي جرفتها المياه معها من الجبال المجاورة وكانت بعض هذه الحجارة حادة مثل السكين .. كان

الإندونيسيون يسـتحمون في منطقة هادئة على جانب النهر .. ولكن كان هناك بعض الشـباب المتهور الذي يريد أن

يثبت رجولته وجرأته أمام الآخرين .. فكانوا يحملون إطارات السـيارات الداخلية المنفـوخة بالهواء ويذهبون بها إلى

أعالي النهر ثم يجلسـون فيها ليدفـعهم الماء بقـوته الشـديدة وسـرعته العالية حتى يصلوا إلى القرية في دقائق

معدودة .. وكانت الصـعوبة التي تواجههم هي تفادي الارتطـام بالصخـور المتنـاثرة بمجـرى النهـر .. هـذه اللعـبة كـانت لا

تخـلو من الخطر والإصابات البالغة وعندما يصطدم أحدهم بالصخور الحادة كان الناس يهرعون لإخراج المصاب من الماء

ويحضرونه لي في المطعم ويسـألونني أن أسـاعده في تضـميد جـراحه .. فقد كان معي علبـة صغـيرة بها بعض

الإسعافات الأولية لتطهير الجراح وتضميدها .. وقد رأيتُ في هذه الأيام جراح بالغة تشـبه قطع السـكين في اللحـم ..

هذه المخاطر كانت عندما يكون ارتفاع مسـتوى المياه في النهر منخفضاً أو متوسـطاً .. أما إذا ارتفـع مسـتوى المياه

في النهر بسـبب الأمطار الغزيرة فالخطر يكون أكبر ويكون للمياه قـوة وجبروت يصعب التغلب عليها .. وفي هذه الحالة

كان يتوقف الشـباب المتهور عن مزاولة هذه الهـواية السـخيفة التي أدتْ أحياناً ببعضهم إلى الموت .. إن دل ذلك على

شيء إنما يدل على أنني كنتُ أدرك تماماً مدى خطورة وحماقة ركوب هذا النهر بإطارات السيارات المنفوخة بالهواء ..

فقد كنتُ بنفسي وبيدي أعالج جراح المصـابين من هذه الحماقات .

بينما أنا جـالس ذات يوم في المطعم أراقب النهر وأحتسي الشاي الأخضر جـاء أربعـة زوار من هـولندا وجلسوا بجـواري

في المطعـم .. وحكـوا لي أنهـم سـيذهبون لرؤية القـرود ثم سـيذهبون بمرافقة مرشـد لقضـاء ليـلة واحـدة في الغـابات

ثم يعـودون في اليوم التالي .. فقلتُ لهم: برغم أن الغـابات الشـمالية ليس بها الكـثير من الدود مصـاص الدمـاء و بها

طرق ممهدة لزوار القـرود ولكن الحذر مطلوب وخصوصاً لأنها غابات جبلية وفي حالة الأمطار الشـديدة قد تحدث بعض

الانهيارات الأرضـية فتجد الأرض تتحرك من أسـفل قدميك ولابد من لبس بنطـلون طـويل لحماية سـاقيك من الأشـواك

والبعـوض .. أخـذتُ أقـدم لهم بعـض النصـائح التي قد يحـتاجون لها .. ولكنهم عـندما سـمعوا كـلامي عن أن الدخـول

إلى الغـابات قد يكـون محفـوفاً بالمخـاطر تملـكهم الخـوف من دخـول الغـابة وحدهم وطلـبوا مني أن أذهـب معهم

.. فقـلتُ لهم أنني قـد كـنتُ في الغـابات الجـنوبية وقد خـرجتُ منهـا للاستراحة واسترداد عـافيتي .. فقـالوا أنها ليلة

واحدة وأنني بالنسبة لهم عامل الأمان الذي يحـميهم من أنفسـهم وإنه يجب أن أذهب معهم لقـضاء هذه اللـيلة ..

وبالفـعل أقنعـوني أن أذهـب معهم .

وما إنْ بدأنا السـير حتى انفتحـتْ عيون السـماء وانهمـر المطـر مـدراراً .. وتحولتْ الأرض إلى وحـل وطـين من تحت

أقدامنا ولكن القـافلة لابد أن تسـير برغم المطـر وبرغم الوحـل .. وواصلنا صعـود الجبل تحت هذا المطر والكل مبلل من

شـعر رأسـه حتى أخمص قدميه حتى الملابس الداخلية كلها كانت مبللة من ماء المطر أو من العـرق .. مثل هذه

الأوضـاع كانت بالنسـبة لي أوضـاع عـادية وطبيعـية جداً .. فهـذه هي الطـبيعة بجـمالها وقسـوتها .. وصـلنا بعد ذلك إلى

مكـان خالٍ من الأشـجار وقـريب من نهر صـغير وأشـعلـنا النـار وقـررنا المبيت هـناك .

في صبـاح اليوم التـالي كان طـريق الرجوع طـويلاً ويحـتاج إلى حـوالي ثمان ساعات من المشي في حالة الجو الصحو

.. وفي مثل هذا الجو الممطر كنا نحتاج إلى حوالي عشـر ساعات في طريق جبلي يصعد ويهبـط بارتفاعات تصل إلى

مئات الأمتار بالإضافة إلى المطر الغزير والوحل بين الأشـجار .. وفي مثل هذه الظـروف ليس هناك أفضل من الصـبر

والتروي حتى يتوقف المطر .. ولكن مرشـد المجموعة كان قد اتخـذ قراراً آخر وطريقـاً مختصـراً في اتجـاه أعـالي النهـر

وليس في اتجـاه طـريق العـودة ... وصلنا إلى ضفة النهر حيثُ شـرح لنا المرشـد أنه قد رتب لنا ثمانية من إطارات

السـيارات الداخلية منفـوخة بالهواء وما علينا إلا أن نركب في الإطارات وفي خلال دقائق قليلة سـيجرفنا تيار الماء

السـريع إلى القرية وبهذه الطريقة نوفـر عشـر سـاعات من السير الشاق .. ووجدتْ هذه الفكرة ترحيباً من الجميع

ولكني أصابني الفزع بمجرد أن رأيتُ النهر وقد ارتفـع مسـتوى مياهه بسـبب الأمطار الغزيرة وحذرتهم من أن يفـعلوا

تلك الحماقة .. ولكن المرشـد الذي كان يريد أن يعود بسـرعة إلى بيته قد أقنعهم بأنه سـيربط إطارات السـيارة ببعضها

بواسـطة حبل متين وبذلك سـتكون الإطارات مجتمعة مثل قارب كبير يمكنه التغلب على تيارات المياه .. وكنتُ أعرف

تماماً أن هذا غير صحيح وأنه يكفي أن ينقلب إطار واحد حتى تنقلب معه باقي الإطارات .. المشكلة الكبرى ليست

فقط سـرعة تيارات المياه ولكن أيضا دوامات المياه والأحجار المتناثرة في عرض النهر .. و يكفي أن تنظر نظرة واحدة

إلى النهر لترى المياه وهي تفـور وتدور وكأنها تغلي على النار وناهيك عن أخشـاب الأشـجار التي تجرفها المياه معها

وكأنها صواريخ متحركة على سـطح النهر .. وبرغم اعتراضي الشـديد ربط المرشد الإطارات المنفـوخة بالهواء ببعضها

البعض ووضعها في الماء بجانب ضفة النهر وأوضح لهم أن عليهم أن يجلسـوا داخل الإطارات وأنه سـيدفـعها بهم إلى

منطقة وسـط النهر حيثُ تيار الماء السـريع وخلال خمسة دقائق فقط يكونوا قد وصلوا إلى القرية .. وبالفـعل ركب هؤلاء

المجانين في ذلك القارب الغريب بينما وقفتُ أنا على الشـاطئ ورفضتُ الركوب معهم وأنا أصيح وأحذر من تلك

المجازفة .. وأشـتد بيننا النقاش ثم قالوا لي: تعالى اركب معنا وكن ديمقراطياً يحترم رأي الأغلبية ولا تكن جباناً خائفاً

، أن العملية لن تستغرق سـوى دقائق معدودة كما أن المرشد من أهل هذه المنطقة ويعرف ما يصنع ،وأنه لن يفـعل

شـيئاً فيه خـطورة عـلينا .. الغـريب في الأمـر أنني ركـبتُ معهم !!.. لا أعرف لماذا ؟.. وكأن سـحابة سـوداء أظلمتْ

على فكري فلم يعد قادر على التفكير وأظلمتْ على عيني فلم أعد أرى الخطر الذي أمامي .. ووجدتُ نفسي أجلس

معهم في قارب مصنوع من إطـارات السـيارات !!.. لا أعرف ماذا حدث لي ؟.. وكيف فـعلتُ ذلك ؟ .. وأنا الذي كـنتُ

أعـالج المصابين من هذه المجازفات .. ربما يكون البلل من المطر الغزير والإرهاق من المشي قد جعلا عقلي غير قادر

على التفكير ،أم أنه القدر الذي كان لابد له أن ينفذ رغم أنفي رغم إرادتي ،أم أنـه تأثير الجـماعة على الفـرد !!.. وما

أن ركـبتُ معهم حتى هلل الجـميع فرحاً بمقدرتهم على إقناعي .. وبسرعة شديدة قام المرشـد بدفع ذلك القارب إلى

عرض النهر ثم قفز معنا فـوق أحد الإطارات .. ولم يسـتغرق الأمر خمس ثوان حتى حدث كل ما كنتُ أتوقعه .. خمس

ثوان على أكثر تقدير حتى جاءتْ موجة عنيفة هزتْ القارب يميناً ويسارا ثم انقلب القارب على من فيه .. وعلا الصياح

والنواح وسـالتْ الدماء من الجراح وصار كل شـخص يصارع من أجل حياته .. منهم من اسـتطاع الإمسـاك بالقارب مرة

أخرى ومنهم من يحاول العوم ومنهم من اصطـدم بالصخور الحـادة فقطـعتْ جـلده .. إنه الصـراع بيـن الحـياة والموت

ولكن قـوة تيارات المياه كانت تجرف الجميع في اتجاه القرية .. أنا أيضاً اصطدمتْ رأسي بصخرة كبيرة أفقدتني المقدرة

على التركيز والاسـتيعاب فصرتُ أرى الصور غير واضحة واسـمع الأصوات مشوشة وبقيتُ في حالة بين الوعي واللاوعي

.. نعم الصور التي أذكرها غير واضحة في ذهني فأنا أتذكر إن قدمي اليمني قد تعلقتْ بين الصخور في وسـط النهر ولم

اسـتطع تخليصها وأن مياه النهر كانت لها لون بني داكن وبها الكثير من أوراق وأغصان الأشـجار وقد رأيتُ شـجرة كاملة

تجرفها المياه نحوي بسـرعة هائلة ،فخفتُ أن تصدمني في رأسي فحاولتُ تجنبها وبعد أن مرتْ الشـجرة بجواري

بسلام ندمتُ على أنني لم أحاول أن امسك بها ولكنني تذكرتُ أن سـاقي مازالتْ عالقـة بين الصخور .. ماء النهر كان

سـريع الجريان بسـبب انحداره من الجبال وكان يأتي على هيئة دفـعات متتالية مثل موج البحر وكان يغمرني حتى

صدري في المكان الذي أقف فيه ولكن عندما تأتي موجة عنيفة من تيارات المياه تغمرني تحتها تماماً وتدفـعني حتى

تصطدم رأسي بصخرة كبيرة ثم ينحسر الماء قليلاً بعد تلك الموجة فأتنفس بسـرعة بعض الهواء ثم تأتي الموجة

التالية لتغمرني بالماء مرة أخرى وتصطدم رأسي بالصخرة التي تحت الماء مرة أخرى وأنا لا حول لي ولا قـوة فأنا لا

أستطيع أن أتحرك من مكاني بسبب قدمي التي مازالت  عالقة بين الصخور .

بينما أنا على حالتي هذه رأيتُ رجلاً لا أعرفه على مسـافة قريبة مني في الماء ولم أر هذا الرجل من قبل وكأنه هبط

لتوه من السـماء وكان ينظر نحوي بهدوء وثقة .. هذا الرجل كان قصير القامة قصير الشـعر وله وجه برونزي اللون وله

ابتسـامة هادئة وقد مد يده اليمنى نحوي فأمسـكتُ بها بيدي اليسـرى .. وفي هذه اللحظة شـعرتُ بالأمل في النجاة

وجاءتني قـوة لا أعرف مصدرها ونزعتُ سـاقي من بين الصخور بشـدة وقفزتُ بكل قـوتي في اتجاه الرجل حتى أخرج

من منطقة التيارات خوفاً من أن تجرفني معها .. أخذ الرجل يعوم بيده اليسـرى فقط وأنا أعوم بجانبه بيدي اليمنى

فقط بينما يدي اليسـرى ظلتْ ممسـكة بيده اليمنى حتى خرجنا من منطقة تيارات المياه الجارفة إلى المياه الهادئة

القريبة من الشاطئ .. ثم ترك هذا الرجـل يدي واختفى ولم أره مـرة أخـرى .

أنا أشـعر أنني منهك القـوى وقد دخلتْ كمية مياه ملوثة كبيرة إلى الرئتين مما جعلتني في حالة تشـبه الغيبوبة ولم

أدر بتفاصيل ما حدث بعد ذلك .. فأنا لا أتذكر بوضـوح لحظة خروجي من الماء وأول صورة عادتْ إلى ذهني بعد ذلك هي

أنني ممدد على جانب النهر وسـكان القرية من حولي يضغطون على بطني وصدري وبعض الماء يخرج من فمي وكنتُ

أجد صعوبة في التنفس ثم حاولتُ أن أقف فشـعرتُ بألم شـديد في إصبع القدم اليمنى وقد عرفتُ أنه قد كُسـر عندما

نزعتُ قدمي من بين الصخور ووجدتُ الجراح تملأ منطقة البطن والقدمين .. وأخذتُ أنظر حولي فـوجدتُ أنني هنا على

مشـارف القرية وهذا شـيئاً لا أستطيع تفسـيره أو اسـتيعابه على الإطلاق لأن هذا يعني أنني قد جرفتني مياه النهر

حوالي مسـافة أربعة أو خمسة كيلومترات ولا أعرف كيف حدث هذا فكل ما أتذكره هو أنني ركبتُ معهم على الإطارات

المنفـوخة بالهواء ووضعتُ عصاي بجانبي وبعد حوالي خمسـون متراً أنقلب القارب ثم تعلقتْ قدمي بين الصخور وهذا

يعني أنني يجب أن أكون قريباً من نقطة البداية وليس في القرية .. بقى هذا السـؤال بدون إجابة وبدون تفسـير !!.

وجـدتُ باقي الأفراد على قيد الحياة وقد حاول كل منهم أن يضمد جراحه مع استثناء واحد منهم كان في قدمه قطع

كبير وعميق لا يمكننا علاجه لأنه يحتاج إلى جراحـة سـريعة .. وقد حمله أصدقاءه مغادرين القرية إلى أقرب مطار حتى

ينقلونه إلى دولة (سـنغافـورة) حيثُ يمكن علاجه هناك .. وقبل مغادرتهم للقرية همس أحدهم في أذني قائلاً: كان

يجب علينا أن نسـمع كلامك ولا نركب هذا القارب !!.. فقلتُ له: الغريب في الأمر أنني كنتُ أعرف ذلك ولكنني ركبتُ

أيضاً معكم .. فقال: إنه تأثير الجماعة على الفرد !!.. فـعندما قال ذلك انتابتني حـالة نفسـية من الحزن واحـتقار الـذات

ولم اسـتطع أن أغفر لنفسي هـذه الخـطيئـة .

قطـعتُ غصناً من شـجرة لأصنع منه عصا بدلاً من عصاي التي جرفتها معها مياه النهر عندما انقلب القارب ثم ربطتُ

إصبع قدمي المكسـور بقطعـة من القماش ثم تعكزتُ على عصاي وأخذتُ أمشي بصعوبة خارجاً من هذه القرية سيراً

على الأقدام ،فقد قررتُ مغادرة هذه القرية .. وبرغم غضبي من ذلك المرشـد الذي يسـتهين بحياة البشـر إلا أنني لا

ألوم إلا نفسي .. فلماذا ذهبتُ معهم إلى الغابة ،ولماذا ركبتُ معهم على تلك الإطارات ؟.. والغريب أنني كنتُ أعرف أن

ذلك سيحدث ؟.. وقد بحثتُ كثيرا في علم النفس حتى أجد تفسيراً لتصرفي هذا حتى عرفتُ أن أي جماعة من البشر

يمكن أن يكون لها تأثير قـوي على الفرد .. وإنني لو كنتُ وحدي ما فـعلتُ هذه الغلطة التي كادت تودي بحياتي .. ومنذ

ذلك الحين لا أقبل إلا أن أسافر وحدي .. وأن أدخل الغابات وحدي لأنني اعتقد أن هذا أكثر أمناً وأماناً .. كما أنني عندما

أكون وحدي يكون فكري خالياً فأستشعر الحياة من حولي بقـوة وأندمج مع الوسط المحيط بي بسرعة .. كما أن سكان

الغابات من القبائل البدائية يعطفون علي ويقبلونني كواحد منهم بسرعة عندما يروني وحدي .. هنا سألني (فرناندو):

ولكن هـل أنت من الـنوع الذي يفضـل أن يعيش وحيداً ؟.. فقلتُ له: بل أنا أحب البشر وأحب أن أعيش معهم ولكني

في اللحظة التي أحتاج فيها إلى درجة عالية من التركيز الذهني فإنني أفضل أن أكون وحدي .. وقدرة الإنسـان على

أن يعيش وحيداً مع نفسـه هي شيء هام جداً في حياته حتى يسـتطيع أن يتعرف على ذاته ويراقبها ويتأملها حتى

يكتشـف أوجه الجمال والقبح الكـامنة في داخله .. فمن لا يستطيع أن يعيش مع نفسـه لا يسـتطيع أن يعيش مع

الآخرين .. ومن تكن نفسـه بغير جمال لا يرى في الوجود شـيئاً جميلاً .. فرد (فرنـانـدو) قائلاً: إن كلامك كله حكم .. وأنا

أعرف الآن أن سـيدة البيت الحسـناء كانت مُحقة عندما أسـمتك (أكـيم) .!

صعدتُ إلى شـبكة النوم وأخذتُ أتابع بنظري ألسـنة النار وهي تتلاشى وإن كان الجمر مازال يحتفـظ بلونه الأحمر

الملتهب وكأنه عيون حمراء في هذا الظـلام الدامس .. وهـبتْ نسـمة رطـبة علينا وعلى صـوت خـرير مـاء نهـر (ريـو

 كـاورا) الذي ينساب بجانبي اسـتسـلمتْ الجفـون للنعاس ورحتُ في نـوم عـميق .

في الصباح واصلنا رحلتنا في النهر ووصلنا في اليوم الثالث إلى منطقة الشـلالات حيثُ ينحدر النهـر إلى الأعمـاق ..

إنه لمـنظر رائـع يبـهر الأنظار ،فماء النهر يتسلل من بين أشجار الغابة ويهبط بقـوة شـديدة إلى أسفل مـُدوياً ومُكتسـحاً

كل ما في طريقه ،وصوت هدير الماء يُشـجي ويُنعـش السـمع والفـؤاد ويُدخل الفرحة والبهجة على القلب الحزين ..

ولكن قلبي قد تركـته هناك بين أشـجار الغابات على مقربة من أكواخ الهنود الحُمر .. صـورة أكواخهم المعزولة في

وسـط الغابات لا تفارق خيالي ،ومازال الألف سـؤال وسـؤال تطـارد فكري وتبحث عن الأجـوبة التي لا أعرفها .

عجلة الزمن لا تتوقف فقد مرتْ الأيام بسـرعة ،ونحن الآن في طريق العودة ونبحر بقاربنا القديم في اتجاه تيار المياه ..

وسـرعة المياه وحدها كافية لدفع القارب إلى الأمام بسـرعة كبيرة .. ونهـر (ريـو كـاورا) العظـيم يُبـهرني بجـماله

الطبيعي وحُسـنه الوحشي .. وأشـعر بعلاقة وثيقـة تربطني بهذا النهر ،فربما يكون السـبب في ذلك هو وجه الشبه

الذي يوجد بيننا فهو نهر مُـتمرد وأنا أيضاً كذلك .. وبينما كنتُ أحاول أن أكتشف أوجه الشبه بيننا أخذت أقول لنفسي:

أن تعوم مع التيار فهذا لا يحـتاج إلى مجهود ولكن التيـار سـيأخذك معـه إلى حيثُ يريـد .. وإن كـنت تـريـد أن تـذهـب

إلى حـيثُ تريـد فـعليك أن تعـوم أحـياناً ضـد التيـار ،وهـذا يتطـلب مجـهود كـبير .. إما أن تشق طريقك بنفسك وإما أن

تقبل أن تعيش عـلى هـامش الحـياة .. شـق طـريقـك مثـلمـا يشق نهـر (ريـو كـاورا) طريقه بين الصخور .. وحرر

نفسـك من قيد المكان ومن قيد الزمان ،وكن حراً طليقاً مثل ماء النهر الذي ينساب دوماً من مكان إلى مكان .. حرر

نفسك من قيد المكان والزمان ،فعلى الأرض أمـاكن غير هذا المكان وأزمـان غير هذا الزمان .. شـق طريقك الخاص بك

بين الأدغال الكثيفـة ولا تقارن طريقك بالطرق الأخرى ،فهو ليس أفضل وليس أقل .. ودعك من فكرة المقارنة بين البشر

.. فكل إنسـان عبارة عن مملكة متكاملة في حد ذاته بما فيه من مميزات وعيوب ،فكـل إنسان مثل فاكهة مخـتلفة ..

فليس التفـاح بأفـضل من المانجو .. وليست المانجو بأفضل من التيـن .. وأمعن النظر في مياه هذا النهر لعلك تتعلم

منه فلسـفة التمـرد الطـبيعي ..!!

نهـر (ريـو كـاورا) له مجـراه الـمُميز الجميل .. فأنت تخاف منـه ولكنه يجذبك إليه .. ففيه تمرد ولكنه تمرد صادق وطبيعي

.. ففيه جمال وأيضاً فيه خطورة ،فالخطر والجمال غالباً ما يكونا متلازمان .. وربما أن الخطر يحمي الجمال ،والورد تحميه

الأشواك .. حتى المرأة الجميلة لها خطورتها .. وبرغم خـطورة هذا النهر فقد كان لطيفـاً معي وتركني اقترب منه وأركبـه

عدة أيام بقـارب متهـالك قـديم لا يليق بجـبروته ولا بقـوة تيـارات مياهـه .

بينما نحن في طريق العودة وقد اقترب القارب من المنطقة التي توقفنا عندها سـابقاً أثناء المطر الشديد .. بدأتْ دقات

قلبي تتزايد وعقلي يعمل بسرعة وفي أقل من دقيقة كنتُ قد أخذتُ قراري النهائي .. وأسـرعتُ طالباً من (فـرنـانـدو)

أن يتوقف قليلاً في نفس المكان .. وسـألني عن السبب .. فـوضعتُ يدي اليسـرى على بطني ففهم من ذلك أنني

أريد أن أقضي حاجتي .. وكنتُ أخشى إن عرف السـبب الحـقيقي أن لا يتوقف في هذا المكان .. وخـرجتُ وحيداً من

القارب بينما انتظر (فـرنـانـدو) والسـائق على ظهر القارب .. وبدلاً من أن أذهب بين الأشـجار لقضاء حاجتي وقفتُ

على الشاطئ ثم لوحتُ له بيدي على أن يواصل السير وقلتُ له بالأسبانية: (أديـوس أميجو) وتعني الـوداع يا صديقي

،وأكملتُ قائلاً بالإنجـليزية: I will stay here alone وتعني أنني سـأبقى هنا وحدي .. فابتسـم (فـرنـانـدو) واعتقـد

أنني أمزح وقال: لا وقت للمزاح الآن فـعلينا مواصلة الرحـلة قبل حلول الظلام .. فقـلتُ له: إنني لا أمزح وإن هذا قراري

ولا تراجـع فيه .. فارتسـمتْ ملامح الدهشـة على وجهه من هـول المفـاجأة ،ولكنه حاول أن يتماسـك أعصـابه وأن

يوضـح لي بهدوء أنه لا يوجـد في هذا المكان طعـام ولا شـراب .. فأشرتُ له بيدي إلى أوراق الأشـجار التي يمكن أكلها

وأشرتُ بيدي إلى النهر الذي يمكن الشرب منه .. وقال لي أنه يوجد هنا ثعابين وحيوانات مفترسة .. فأشرتُ بإصبعي

إلى السـماء وأردفتُ قائـلاً: إن الأعمار بيد الله ولن ينتهي العمر إلا في ميعاده ،وإن كان قد قُدر لي أن أموت هنا

فسـيكون ،وإن لم يُـقـَدر فـلن يكـون .. رُفـعـتْ الأقـلام وجـفتْ الصـحف .

مازال (فـرنـانـدو) غير مُصـدق لما يراه من هذا الغريب الذي يريد أن يبقى وحيداً في هذا المكان المعزول عن العالم ..

فسـألني: هل أنت مجنون ؟.. فقلتُ له: نعم أنا مجـنون يا صديقي .. فاسـتطرد قائلاً: أنت المجـنون الوحيد الذي يعرف

أنه مجـنون .. ثم حاول أن يوضح لي بلغة المنطق والعقل مدى خطورة هذه المنطقـة فقال لي: اسـمعني جيداً .. إن

هذه المنطقة معزولة عن العالم ولا يوجد طريق اتصال إلى هنا غير هذا النهر الوعر ،وإن الغابات كثيفة جداً ومن الصعب

اختراقها بدون سـكين كـبير تقطع بها الحشـائش والشـجيرات التي تسـد الطريق ،وهذه المنطقة بها نوع من الثعابين

السـامة لونه أخضر يسـمونه (الثعـبان الطـائر) ،ونـوع من العناكب السامة تُسمى (عنـاكب الطـير) وهي في حجم

قبضة اليد ولدغتها سامة وتؤدي إلى الشـلل ،وأيضاً يعيش هنا نوع من نمور (الجـاكور) وهو من النمور الشـرسـة

 ،بالإضافة إلى أنه يوجد في هذه المنطقة قبيلة من الهنود الحُمر وربما يهاجموك ويقتلوك ..  فقلتُ له: لقد رأيتُ

أكواخهم خلف هذه الهضبة وسـأذهب إليهم وأعيش معهم عشـرة أيام .. وأنا لا أخاف من الموت وإن كنتُ أحـرص على

الحـياة .. وأنا أريـد أيضاً أن أعـود إلى أطفـالي الصغـار .. فرد (فـرنـانـدو) قائلاً: وماذا أقـول لسـيدة البيت التي قالت تذهبا

سـوياً وتعودا سـوياً .. فقلتُ له: قُل لها إنني أحترمها .. فقد قالتْ لك ذلك لأنها كانت تتوقع أنك سـتعود بدوني .. قل لها

كم هو عـظيم ذكاء المرأة الجميلة ، وكم هو جـميل جـمال المرأة الذكية .. قل لها إنني أحـترم ذكاءها.. فقال (فرنـانـدو):

لا يمكننا البقـاء معك ،فالطعام الذي معنا لا يكفي إلا ليـوم واحد فقـط .. فرددتُ عليه: لا تقـلق من ناحيتي يا(فـرنـانـدو)

.. فرد مُتعجباً: أتركك وحـدك في مثل هذا المكان المعزول عن العالم وتقـول لي بهذه البسـاطة أن لا أقلق من ناحيتك

، إن هذا شيء لا أستطيع أن أفهمه .. فقلتُ له: أرجوك أن تسـامحني يا صديقي إن كنت لا تفهمني .. سـامحني

يا صديقي لأنني أختلف قليلاً عن الآخرين .. سـامحني يا صـديقي لأنني أحـب الحـياة وأحـب أن أرى ما خـلق الله قبل

أن يمر بيّ العُمـر .. سامحني يا صديقي لأنني إنسان بسيط جداً .. أعشق النوم على الأرض واشتهي فـواكه

 الأشجار وأحب الناس البسـطاء الذين يسكنون في الغـابات .. سـامحني يا صـديقي لأنني أعشـق كـل شيء كما

خـلقه الله وليس كما أبدلتـه يـد البشر .. سامحني يا صديقي لأنني أحتاج أحياناً أن أكون وحيداً حتى أجد نفسي مرة

أخرى .. سامحني وأدعو الله أن نتقابل مرة أخرى بعد عشرة أيام في هذا المكان على شاطئ النهر .. فأنت الشخص

الوحيد في العالم الذي يعرف أنني موجـود في هذه المنطقـة .. إلى اللقاء يا(فـرنـانـدو)  .. إلى اللقـاء يا صـديقي ..

 (أديـوس  أمـيجو) .. وانهمـرتْ دمعـة سـاخنة على خـدي .

أبتعـد القـارب شيئاً فشيئا وأنا أرى الدمـوع في عـين (فـرنـانـدو) وهـو يلـوح بيـده ويصـيح بالأسـبانية: " أديـوس أميـجو"

 .. "  أديـوس أميـجو" .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

 

 

 

 أضغط هنا لترسل رأيك لإدارة الموقع